ما بعد الأزمة المالية الفلسطينية: معادلة الانفكاك الاقتصادي عن إسرائيل
رجا الخالدي
أ. خلفية
على الرغم من الامتعاض الفلسطيني الواسع تجاه "بروتوكول باريس" ومجمل ترتيبات أوسلو، فإنه ليس واضحاً بعد ما إذا كان الكيان الفلسطيني - السياسي والاقتصادي والاجتماعي - جاهزاً لدفع ثمن تفكيك إطار أوسلو الذي بات بمثابة القفص الحديدي للحركة الوطنية الفلسطينية، وآلية لتسهيل عملية تحكم الاستعمار الاستيطاني الصهيوني بجميع أراضي وموارد فلسطين.
بعد مرور 25 سنة على البروتوكول الموقع في باريس بين إسرائيل وفلسطين والذي يخص العلاقات الاقتصادية، نجد أنفسنا أمام طريق مسدود، لأن الإطار السياساتي الناظم لهذه العلاقات يواجه نهايته المنطقية. لربما كان هذا الاستنتاج وارداً قبل عام 2019 بسنوات، حين أجمعت وجهات النظر الفلسطينية، وكذلك آراء العديد من الجهات الدولية على عدم ملائمة إطار "بروتوكول باريس" أصلاً لاحتياجات الاقتصاد الفلسطيني، وعلى تطبيقه أحادي الجانب في أحسن الأحوال. حتى البنك وصندوق النقد الدوليان لم يعودا يُنكران أن البروتوكول أصبح يوظَّف من قبل إسرائيل كعصا غليظة تقوّض إمكانية بناء اقتصاد فلسطيني "منتج ومستقل وسيادي". وفي السنوات الأخيرة نشرت دراسات وجرت نقاشات عديدة تظهر إمكانيات بلورة سياسة تجارية فلسطينية منفصلة عن قيود البروتوكول، حتى ولو تدريجياً، وفي غياب تحقيق السيادة وإقامة الدولة.
التطورات السياسية والاقتصادية خلال السنة الحالية أظهرت تلك الحقيقة بجلاء أكثر، وخاصة على ضوء الأزمة المتفاقمة للمالية العامة الفلسطينية منذ آذار/ مارس 2019، إثر تطبيق القانون الإسرائيلي باقتطاع جزء من الإيرادات الضريبية التجارية الفلسطينية التي تحول شهرياً (أموال المَقاصة)، وهو الجزء المساوي للمخصصات المالية الفلسطينية لأسر الأسرى التي يكفلها القانون الإنساني الدولي واتفاقية جنيف الرابعة. كشف الموقف الرسمي الفلسطيني بعدم قبول أيِّ أموال مقاصة منقوصة، والذي لاقى تأييداً شعبياً واسعاً، عن عمق الرغبة (والحاجة) الفلسطينية "لفك الارتهان" بالاقتصاد الإسرائيلي، والتحرر من تمسك الأخير بجميع مفاتيح التنمية الاقتصادية الفلسطينية.
بغض النظر عن المصير المباشر لهذه المواجهة، ومدى توسع رقعة الأزمة المالية وآثارها لتشمل جميع قطاعات الاقتصاد، وذلك بحلول نهاية العام، فإنه لم يعد ممكناً العودة إلى حالة "الأعمال كالمعتاد" في العلاقة الاقتصادية الفلسطينية - الإسرائيلية التي أصبحت، كبقية العلاقات السياسية والأمنية والمدنية، متأزمة وخاضعة لمراجعة شاملة من قبل كافة فئات وطبقات ومؤسسات الشعب الفلسطيني. ومع أنه لا لبس في الامتعاض الفلسطيني الواسع تجاه البروتوكول ومجمل ترتيبات أوسلو، فإنه لا يبدو ما إذا الكيان الفلسطيني (السياسي والاقتصادي والاجتماعي) جاهزاً لدفع ثمن انهيار أو تفكيك إطار أوسلو، أو ما إذا كان قادراً على بلورة رؤية ثابتة، واستراتيجية قابلة للتنفيذ، للتعامل مع تداعيات الأزمة الحالية المالية وتبعاتها الاقتصادية المحتملة.
إن مقتضيات المرحلة السياسية الجديدة، إذا صدقت القرارات والتصريحات الرسمية الأخيرة، ستتطلب جهوداً غير مسبوقة للانفكاك الملموس عن قبضة الاحتلال الاقتصادي والسياسي والأمني التي تحول دون تقدم المشروع التحرري الوطني الفلسطيني.
لقد فشل بروتوكول باريس في تحقيق أهدافه "المعلنة" (والمأمولة فلسطينياً) في تغيير بنيوي في الاقتصاد الفلسطيني وتبعيته الخارجية، وفشل الرهان على تعهدات الحكومات الإسرائيلية، بينما نجح تطبيق البروتوكول فعلاً في تقويض الطموحات الفلسطينية بالاستقلال وفي إبقاء ولاية السلطة الفلسطينية ووظائفها إدارية وغير سيادية.
تظهر أبرز خمس قنوات تربط الاقتصاد الفلسطيني بالإسرائيلي الأهمية النسبية لمسألة إيرادات المقاصة بين مختلف جوانب الارتهان الاقتصادي، التي لا بد من وضع سياسات وخطط عاجلة للتقليل منها أو انهائها، إذا كانت المواجهة الحالية ستؤدي فعلاً الى تغيير قواعد لعبة باريس/أوسلو السائدة، او تمهد للتخلي عنها تماماً. ب. خمس محاورلالتبعية الاقتصادية الفلسطينية المفروضة على الاقتصاد الاسرائيلي
علاقات التبعية الاقتصادية المفروضة على فلسطين تسخّر لخدمةً سياساتها الأمنية والاستعمارية العليا، وهي لا تقتصر على الجانب المالي، بل تشمل عدد من المحاور/ المفاصل الحيوية بالنسبة للاقتصاد الفلسطيني (وبدرجة أقل أهمية بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلي).
- التسرب المالي نحو الخزينة الإسرائيلية
من أكثر الترتيبات المالية المعقدة حساسية وحيوية، التي انطوى عليه العمل ببروتوكول باريس هي آلية احتساب وتحويل المستحقات الضريبية الفلسطينية (المقاصة) التي تجبيها اسرائيل على الواردات الفلسطينية منها (القيمة المضافة)، وعلى الواردات الدولية المباشرة الى فلسطين (القيمة المضافة والجمارك والمكوس وضريبة الشراء على بعض الواردات). وبالاضافة الى ما تتيحها هذه العملية من فرص لإسرائيل للقرصنة المالية حينما تشاء، فان مجمل أوجه العلاقة التجارية الفلسطينية – الإسرائيلية في سياق أوسلو/ باريس تتضمن ترتيبات تُلحق خسائر كبيرة بالخزينة الفلسطينية. يشمل ذلك عائدات ضريبية كان ينبغي ان تسجل لصالح السلطة لكنها إما تجبى من قبل الخزينة الإسرائيلية (ما يسمى بالواردات غير المباشرة الى فلسطين ويكون قد تم استيرادها الى إسرائيل قبل إعادة تسويقها في فلسطين)، أو البضائع المهربة التي تدخل السوق المشترك دون ان يُدفَع ما يلزم من الضرائب، وما يتصل بذلك من تهرب ضريبي.
في آخر دراسة شاملة لكافة أشكال الخسائر المالية التي تتكبدها الخزينة الفلسطينية جراء العمل في إطار البروتوكول واتفاقيات أوسلو - تصدر قريباً عن ال"أونكتاد" - قُدِّرت قيمة هذه الخسارة السنوية (في 2017) بما يزيد عن مليار دولار، أو ما يعادل حوالي ثلث الايرادات الحكومية الفعلية أو 7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. مثل هذا التقدير (حتى دون احتسابه بأثر رجعي) يشير الى حجم العبء المالي للاحتلال. وقنوات النزيف المالي هذه لفلسطين بفضل البروتوكول هي ما يمكن استهدافها في المساعي الفلسطينية للانفكاك من قبضته.
- تدفق العمالة الفلسطينية الى داخل إسرائيل ومستوطناتها
من بين مآسي إرث بروتوكول باريس أن أقوى حجة لدى الطرف الفلسطيني لقبول صيغة الاتحاد الجمركي خصت عدد العمال الفلسطينيين في السوق الإسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة قبل 1993 الذي كان يشكل حوالي 20-25 في المئة من عدد العاملين الفلسطينيين الإجمالي، وكان دخلهم من العمل في إسرائيل يشكل نسبة 20 - 30 في المئة من الدخل القومي الفلسطيني حتى بداية التسعينيات الفائتة. وحيث أنه لم يكن من الممكن استيعابهم في المدى القصير (سنوات أوسلو الخمس المفترضة) في الاقتصاد المحلي، فقد تم القبول بصيغة "السوق المشترك" المفتوح (افتراضياً) أمام تدفق السلع والعمالة، على أمل العمل خلال تلك الفترة على بناء الاقتصاد المحلي المنتج والمولد لفرص العمل، بما يسمح لاحقاً بالاستغناء التدريجي عن الاعتماد على السوق الإسرائيلي لتشغيل القوة العاملة الفلسطينية.
لم تستهدف السياسات الفلسطينية المتبعة خلال السنوات الأخيرة تغيير هذه العلاقة. وعلى الرغم من اخراج جميع عمال قطاع غزة من المعادلة (وارتفاع البطالة هناك عام 2018 الى 52 في المئة)، عاد اليوم عدد العمال الفلسطينيين داخل السوق الإسرائيلي من الضفة الغربية وحدها الى ما كان عليه قبل 25 سنة، أي حوالي 127 ألف عامل، ما يمثل 13 في المئة من اجمالي العاملين الفلسطينيين اليوم (و20 في المئة من العاملين في الضفة الغربية)، يسهمون بتوليد 15 في المئة من الدخل القومي – وهي نسب تقارب تلك التي كانت سائدة قبل 25 سنة.
هذا يبرز وجه آخر لفشل البروتوكول في إحداث أهدافه "المعلنة" (والمأمولة فلسطينياً) في تغيير بنيوي في الاقتصاد الفلسطيني وتبعيته الخارجية، وفشل الرهان على تعهدات الحكومات الإسرائيلية، بينما نجح تطبيق البروتوكول فعلاً في تقويض الطموحات الفلسطينية بالاستقلال وفي في إبقاء ولاية السلطة الفلسطينية ووظائفها إدارية وغير سيادية. هذا الاستنتاج ينذر بأخطار محدقة لاستقرار الاقتصاد الفلسطيني في أية لحظة تقرر إسرائيل لأسباب أمنية أو سياسية عقابية تقليص عدد تصاريح العمل او التجارة الممنوحة أو مكافحة العمالة غير المرخصة، ويبقي سوق العمل الفلسطيني رهينة قرار جائرلأي ضابط صغير في الإدارة العسكرية الإسرائيلية.